فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الجان} يراد به جنس الشياطين، ويسمون: جنة وجانًا لاستتارهم عن العين، وسئل وهب بن منبه عنهم فقال: هم أجناب، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس تفعل هذا كله، منها السعالي والغول وأشباه ذلك.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {والجأن} بالهمز.
قال القاضي أبو محمد: والمراد بهذه الحلقة إبليس أبو الجن، وفي الحديث: «أن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر» وفي سورة البقرة إيعاب هذا وقوله: {من قبل} لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، وخلق آدم آخر الخلق، و{السموم}- في كلام العرب- إفراط الحر حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح، وقالت فرقة: السموم بالليل، والحرور بالنهار.
قال القاضي أبو محمد: وأما إضافة {نار} إلى {السموم} في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار أنواعًا، ويكون {السموم} أمرًا يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ؛ وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم: مسجد الجامع، ودار الآخرة، على حذف مضاف.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)}
{إذ} نصب بإضمار فعل تقديره: اذكر إذ قال ربك، والبشر هنا آدم، وهو مأخوذ من البشرة، وهي وجه الجلد، في الأشهر من القول، ومنه قول النبي عليه السلام: «وافقوا البشر» وقيل البشرة ما يلي اللحم. ومنه قولهم في المثل: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة لأن تلك الجهة هي التي تبشر.
وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور- فهي مخلوقات لطاف- فأخبرهم: أنه لا يخلق جسمًا حيًا ذا بشرة وأنه يخلقه {من صلصال}.
قال القاضي أبو محمد: والبشر والبشارة أيضًا أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران.
و{سويته} معناه: كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب، وقوله: {من روحي} إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس.
وقوله: {فقعوا} من وقع يقع، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم، وإشارة، كما قال بعض الناس، وشبهوه بقول الشاعر أبي الأخزر الحماني: الطويل.
فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها ** كما سجدت نصرانة لم تحنف

وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا.
وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس: أنه قال: خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا، فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس- من الأولين- يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم، ويحتمل أن يريد: في أنه بقي منهم.
وقوله: {كلهم أجمعون} هو-عند سيبويه- تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمن الأول، وقال غيره: {كلهم} لو وقف عليه- لصلحت للاستيفاء، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كل الناس يعرف كذا، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر، فلما قال: {أجمعون} رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد، وقال ابن المبرد: لو وقف على {كلهم} لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال: {أجمعون} دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.
قال القاضي أبو محمد: واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله: {أجمعون} حالًا. بمعنى مجتمعين، يلزمه- على هذا- أن يكون أجمعين، يقرب من التنكير إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تأبى قوله.
وقوله: {إلا إبليس} قيل: إنه استثناء من الأول، وقيل: إنه ليس من الأول، وهذا متركب على الخلاف في {إبليس}، هل هو من الملائكة أم لا؟ والظاهر- من كثير من الأحاديث ومن هذه الآية- أنه من الملائكة وذلك أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لم يذنب في ترك السجود.
وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن: أن إبليس إنما كان من قبيل الجن ولم يكن قط ملكًا؛ ونسب ابن فورك القول إلى المعتزلة، وتعلق من قال هذا بقوله في صفته: {كان من الجن} [الكهف: 50]، وقالت الفرقة الأخرى: لا حجة في هذا لأن الملائكة قد تسمى جنًا لاستتارها وقد قال تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا} [الصافات: 158].
وقوله تعالى: {قال يا إبليس}، قيل: إنه- حينئذ- سماه {إبليس}، وإنما كان اسمه- قبل- عزازيل، وهو من الإبلاس وهو الإبعاد، أي يا مبعد، وقالت طائفة: {إبليس} كان اسمه، وليس باسم مشتق، بل هو أعجمي، ويقضي بذلك أنه لا ينصرف، ولو كان عربيًا مشتقًا لكان كإجفيل- من أجفل- وغيره، ولكان منصرفًا، قاله أبو علي الفارسي.
وقوله: {ألا تكون} أن في موضع نصب، وقيل: في موضع خفض، والأصل: ما لك ألا تكون؟ وقول إبليس {لم أكن لأسجد لبشر} ليس هذا موضع كفره عند الحذاق، لأن إبايته إنما هي معصية فقط، وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن الله خلق خلقًا مفضولًا وكلف أفضل منه أن يذل له، فكأنه قال: وهذا جور، وذلك أن إبليس لما ظن أن النار أفضل من الطين ظن أن نفسه أفضل من آدم من النار يأكل الطين، فقاس وأخطأ في قياسه، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله المالك للجميع لا رب غيره.
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)}
الضمير في {منها} للجنة، وإن لم يجر ذكرها في القصة تتضمنها، ويحتمل أن يعود الضمير على ضيفة الملائكة، وال {رجيم} المشتوم أي المرجوم بالقول والشتم، و{يوم الدين} يوم الجزاء، ومنه قول الشاعر:
ولم يبق سوى العدوا ** ن دناهم كما دانوا

اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإِنسان} يعني آدم {من صلصال} وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الطين اليابس الذي لم تُصِبه النار، فإذا نقرتَهَ صَلَّ، فسمعتَ له صلصلة، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.
والثاني: أنه الطين المنتن، قاله مجاهد، والكسائي، وأبو عبيد.
ويقال: صَلَّ اللحمُ: إِذا تغيرت رائحته.
والثالث: أنه طين خُلط برمل، فصار له صوت عند نقره، قاله الفراء.
فأما الحمأُ، فقال أبو عبيدة: هو جمع حَمْأة، وهو الطين المتغير.
وقال ابن الأنباري: لا خلاف أن الحمأ: الطين الأسود المتغيِّر الريح.
وروى السدي عن أشياخه قال: بُلَّ الترابُ حتى صار طينًا، ثم تُرك حتى أنتن وتغيَّر.
وفي المسنون أربعة أقوال.
أحدها: المنتن أيضًا، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة في آخرين.
قال ابن قتيبة: المسنون: المتغير الرائحة.
والثاني: أنه الطين الرطب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنه المصبوب، قاله أبو عمرو بن العلاء، وأبو عبيد.
والرابع: أنه المحكوك، ذكره ابن الأنباري، قال: فمن قال: المسنون: المنتن، قال: هو من قولهم: قد تسنَّى الشيء: إِذا أنتن، ومنه قوله تعالى: {لم يتسنَّهْ} [البقرة 259]، وإِنما قيل له: مسنون، لتقادم السنين عليه.
ومن قال: الطين الرطب، قال: سمي مسنونًا، لأنه يسيل وينبسط، فيكون كالماء المسنون المصبوب.
ومن قال: المصبوب، احتج بقول العرب: قد سننت عليَّ الماء: إِذا صببته.
ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال، من قوله: رأيت سُنَّة وجهه، أي: صورة وجهه، قال الشاعر:
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ** مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ

ومن قال: المحكوك، احتج بقول العرب: سننت الحجر على الحجر: إِذا حككته عليه.
وسمي المِسَنُّ مسنًا، لأن الحديد يُحَكُّ عليه.
قال: وإِنما كُرِّرت {مِنْ} لأن الأولى متعلقة بـ: {خلقنا}، والثانية متعلقة بالصلصال، تقديره: ولقد خلقنا الإِنسان من الصلصال الذي هو من حمأٍ مسنون.
قوله تعالى: {والجانَّ} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مسيخ الجن، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإِنس، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أنه أبو الجن، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وروى عنه الضحاك أنه قال: الجانُّ أبو الجن، وليسوا بشياطين، والشياطين ولد إِبليس لا يموتون إِلا مع إِبليس، والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر.
والثالث: أنه إِبليس، قاله الحسن، وعطاء، وقتادة، ومقاتل.
فإن قيل: أليس أبو الجن هو إِبليس؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أنه هو، فيكون هذا القول هو الذي قبله.
والثاني: أن الجانَّ أبو الجن، وإِبليس أبو الشياطين، فبينهما إِذًا فرق على ما ذكرناه عن ابن عباس.
قال العلماء: وإِنما سمي جانًّا، لتواريه عن العيون.
قوله تعالى: {من قبل} يعني: قبل خَلْق آدم {من نار السموم}، وقال ابن مسعود: من نار الريح الحارَّة، وهي جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم.
والسَّموم في اللغة: الريح الحارَّة وفيها نار، قال ابن السائب: وهي نار لا دخان لها.
قوله تعالى: {فإذا سوَّيتُه} أي: عدَّلتُ صورته، وأتممتُ خلقته {ونفختُ فيه من روحي} هذه الروح هي التي يحيا بها الإِنسان، ولا تُعْلَم ما هيَّتُها، وإِنما أضافها إِليه، تشريفًا لآدم، وهذه إِضافة مِلْك.
وإِنما سمي إِجراء الروح فيه نفخًا، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الريح فيه.
قوله تعالى: {فقعوا} أمر من الوقوع.
وقوله: {كلُّهم أجمعون} قال فيه سيبويه والخليل: هو توكيد بعد توكيد.
وقال المبرد: {أجمعون} يدل على اجتماعهم في السجود، فالمعنى: سجدوا كلُّهم في حالة واحدة.
قال ابن الأنباري: وهذا، لأن {كلًا} تدل على اجتماع القوم في الفعل، ولا تدل على اجتماعهم في الزمان.
قال الزجاج: وقول سيبويه أجود، لأن {أجمعين} معرفة، ولا تكون حالًا.
قوله تعالى: {وإِن عليك اللعنة} قال المفسرون: معناه: يلعنك أهل السماء والأرض إِلى يوم الحساب.
قال ابن الأنباري: وإِنما قال: {إِلى يوم الدِّين} لأنه يوم له أول وليس له آخر، فجرى مجرى الأبد الذي لا يفنى، والمعنى: عليك اللعنة أبدًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} يعني آدم عليه السلام.
{مِن صَلْصَالٍ} أي من طين يابس؛ عن ابن عباس وغيره.
والصَّلْصَال: الطين الحرّ خُلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جَفّ، فإذا طبخ بالنار فهو الفَخّار؛ عن أبي عبيدة.
وهو قول أكثر المفسرين.
وأنشد أهل اللغة:
كعَدْوِ المُصَلْصِل الجَوّال

وقال مجاهد: هو الطين المُنْتِن؛ واختاره الكسائيّ.
قال: وهو من قول العرب: صلّ اللّحمُ وأصلّ إذا أنتن مطبوخًا كان أو نيئًا يَصل صلولًا.
قال الحُطيئة:
ذاك فتًى يبذُل ذا قِدْرِهِ ** لا يُفسِد اللحمَ لَدَيه الصُّلول

وطين صَلاّل ومِصْلال؛ أي يصوّت إذا نقرته كما يصوّت الحديد.
فكان أوّلَ ترابًا، أي متفرّق الأجزاء ثم بُلّ فصار طينًا، ثم تُرك حتى أنتن فصار حَمَأً مسنونًا؛ أي متغيرًا، ثم يَبِس فصار صلصالًا؛ على قول الجمهور.
وقد مضى في البقرة بيان هذا.
والحَمَأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين؛ تقول منه: حمِئت البئر حَمْأ {بالتسكين} إذا نزعت حمأتها.
وحَمِئت البئر حمأ {بالتحريك} كثرتْ حمأتُها.
وأحمأتُها إحماء ألقيتُ فيها الحَمْأة؛ عن ابن السِّكِّيت.
وقال أبو عبيدة: الحمأة {بسكون الميم} مثل الكمأة.
والجمع حَمْءٌ، مثل تمرة وتمر.
والحَمَأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سُمّي به.
والمسنون المتغيّر.
قال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن، فجعل صلصالًا كالفخار.
ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا: المنتن المتغيّر؛ من قولهم: قد أَسِن الماء إذا تغيّر؛ ومنه {يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]، و{مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15].
ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
سقت صداي رُضابا غير ذي أسن ** كالمسك فُتّ على ماء العناقيد

وقال الفراء: هو المتغير، وأصله من قولهم: سَننت الحجر على الحجر إذا حككته به.
وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسَّنِين؛ ومنه المِسن.
قال الشاعر:
ثم خاصرتُها إلى القبة الحم ** راء تمشي في مَرْمَر مَسنون

أي محكوك مُمَلَّس.
حُكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه: ألا ترى عبد الرحمن بن حسان يُشبّب بابنتك.
فقال معاوية: وما قال؟ فقال قال:
هي زَهْراءُ مثلُ لؤلؤة الغوَّا ** ص مِيزَتْ من جَوهرٍ مَكْنونِ

فقال معاوية: صدق! فقال يزيد: {إنه يقول}:
وإذا ما نَسْبتَها لم تجدها ** في سَناء من المكارم دونِ

فقال: صدق! فقال: أين قوله: ثم خاصرتها.. البيت.
فقال معاوية: كذب.
وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب:
سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته.
والسَّن الصب.
وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسنون الرَّطب؛ وهذا بمعنى المصبوب؛ لأنه لا يكون مصبوبًا إلا وهو رطب.
النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: سننت الشيء أي صببته.
قال أبو عمرو بن العلاء: ومنه الأثر المرويّ عن عمر أنه كان يَسُنّ الماء على وجهه ولا يَشُنّه.
والشنّ بالشين تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق.
وقاله سيبويه: المسنون المصوّر.